من المفارقات الغريبة في الحياة، أن تجمعك بإنسان لا تعرفه في مكان لم تتفقا عليه، وفي ساعة لم تحددان موعدها، وفي توقيت قد يكون فارق لكما .
ورغم عدم وجود سابق معرفة بينكما، ولا علاقة عابرة حتى في أدنى مستوى تربطكما، إلا أنك تفاجأ بأنه يفتح لك صفحة مطمورة من حياته دون أن تسأله ، ويطلعك على ملامح مخفية دون أن تطلب منه .
ويبوح لك بأوجاعه وكأنك مرآة له ، ويفضي لك بأسراره وكأنك انعكاس لذاته .
ورغم ريبتك في آمره ، وحيرتك في حالة، إلا أنك تُصغي إليه بكل مشاعرك ، وتنفعل معه بكل حواسك ، وتندمج معه بقلبك ، وتشعر بصدقه من خلال مواقف يغص في نطقها ، ودموع يجاهد في منعها ، وذكريات بألم يتجرعها ،وكلماتك بصعوبة ينطقها.
فتشعر بقربة منك رغم الفترة القصيرة التي جمعتك به ، وراحته بالحديث معك رغم عدم وجود معرفة بينكما .
قد تجمعك الأقدار بذلك الإنسان والذي تصادف وجودك معه ، وأنتما في غرفة انتظار طويل في مستشفى ، أو في رحلة مملة في قطار ،أو في زاوية مهجورة في مقهى كئيب ،أو في مناسبة أشعرتهُ بوحدته ،أو في حفل أحس بأنهُ غريب فيه .
وتصادف و جودك معه على نفس تلك الرحلة ، أو في ذلك المقهى ، أو تلك المناسبة .
فأصبح يقطع الوقت بالحديث معك ، ويؤنس وحشة المكان بالبوح لك ، ويفض صمت الجدران بالشكوى إليك .
ورغم يقينك أنك لست الشخص المناسب الذي يفترض أن يتحدث معه ، وشعورك بالعجز عن مساعدته ، وجهلك بالكثير من تفاصيل حياته .
إلا أنك تُصغي إليه بشقف ، وتحتوي متاعبهُ بإحساس ، وتربت على كتفيه بحنان .
ليمضي الوقت و تتوقف الرحلة ، أو تنتهي المناسبة ، و يحين الموعد لتنتهي معها عمر علاقتك به ، وينتفي سبب اللقاء معه ، ويحين موعد وداعك له .
لتجده يعبر عن امتنانه لك على الوقت الذي منحته إياه ، والاهتمام الذي أحطته به ، والمشاعر التي شاركته إياها .
لا أعلم كم مره حصلت تلك المصادفة في حياة البعض !
ومتى جمعت الأقدار بينك وبين ذلك الشخص والذي وجد فيك مرفأ ليحط عليه أطنان متاعبه ، ومرسى تصل له جراحة ؟
– لاشك -أن ثمة تساؤلات ستقفز في ذهنك بعد هذا اللقاء الغريب! وذلك الشخص المجهول !
لما تحدث معي بكل هذه الدفء؟ وأنصتُ له بكل اهتمام !
رغم عدم معرفتك به !ولما خصك بكل تلك التفاصيل برغم عدم وجود علاقة معه ؟
بكل الأحوال حديثة معك لا يعني ثقته بك ، واطلاعك على بعض التفاصيل لا تعني رغبته في توطيد العلاقة معك ، أو جديتهُ في استمرار العلاقة بينكما.
أنها تفسر وضع نفسي يعانيه مهما كانت أسبابة : سواء صدمة مؤلمة ، صفعة غدر ، أو خيبة أمل .
كما تفسر رغبة بالحديث مع مجهول لا يعرف من حياته إلا بالقدر الذي يريد اطلاعك عليه ، وأن يكون بمنتهى الشفافية معه دون أن يشعر بالحرج من تفاصيل حياته ، ولا يخجل من حماقاته ، ولا يشعره باللوم ، ولا يكثر عليه التأنيب .
مجهول يتحدث إليه ثم ينتهي الآمر ، بلا صداقة قد تفتر مع الزمن ، أو علاقة قد تنتهي في أي وقت .
مجهول يكشف له أوراق أصفرت من حياته ، وصور أسودت في مخيلته ، وصفحات مهترئة من ذاكرته .
ذلك أن – نحن البشر – تختلف درجة تحملنا للحياة خاصة في ليالها الثقيلة ، و تضعف أرواحنا أمام صفعاتها الغادرة ،وتبهت ابتسامتنا إزاء أحداثها العابسة .
حينها قد يفقد البعض السيطرة على كيانه ، فينهار من داخلة ، وتتهشم ذاته، وينهار صموده حالة مكابدة الألم ، الذي تمكن من النفس ، وأفنى الجسد.
أجد أن الشاعر العراقي ( أحمد مطر) قد وفق في التعبير عنها في أبياته ،وأن كان موضوعة سياسي ،ولكنه قهر على أي حال حيث قال :
بكـى مِـن قَهْـريَ القَهـرُ وأشـفَقَ مِـن فَمـي المُـرُّ وَسـالَ الجَمْـرُ في نَفْسـي فأحـرَقَ نَفسَـهُ الجَمـر
أي ألم هذا ؟، وقد أفنى النفس فكان أحر من الجمر! .
فتكون ذلك الشخص الذي يلملم شتاته ، ويجمع أشلاءه ، ويستمد منه قوته ، بمجرد كلمات تمنحه له ، وبمشاعر تصغي إليه .
– ولا شك- أنه لم يكن يطمع بأكثر من تلك الكلمات ، وتلك المشاعر ، والكثير من الإصغاء .